كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعلى هذا الأساس حرم من الذبائح ما أهل لغير الله به؛ وحتم ذكر اسم الله عليها، حتى ليجعل ذكر اسم الله هو الغرض البارز، وكأنما تذبح الذبيحة بقصد ذكر اسم الله. {ولكل أمة جعلنا منسكًا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}..
ويعقب بتقرير الوحدانية: {فإلهكم إله واحد}.. وبالأمر بالإسلام له وحده: {فله أسلموا}.. وليس هو إسلام الإجبار والاضطرار، إنما هو إسلام التسليم والاطمئنان: {وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فبمجرد ذكر اسم الله يحرك الوجل في ضمائرهم ومشاعرهم. {والصابرين على ما أصابهم} فلا اعتراض لهم على قضاء الله فيهم. {والمقيمي الصلاة} فهم يعبدون الله حق عبادته. {ومما رزقناهم ينفقون} فهم لا يضنون على الله بما في أيديهم.. وهكذا يربط بين العقيدة والشعائر. فهي منبثقة من العقيدة وقائمة عليها. والشعائر تعبير عن هذه العقيدة ورمز لها. والمهم أن تصطبغ الحياة كلها ويصطبغ نشاطها بتلك الصبغة، فتتوحد الطاقة ويتوحد الاتجاه، ولا تتمزق النفس الإنسانية في شتى الاتجاهات.
ويستطرد السياق في تقرير هذا المعنى وتوكيده وهو يبين شعائر الحج بنحر البدن:
{والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولَكِن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين}..
ويخص البدن بالذكر لأنها أعظم الهدي، فيقرر أن الله أراد بها الخير لهم، فجعل فيها خيرًا وهي حية تركب وتحلب، وهي ذبيحة تهدى وتطعم فجزاء ما جعلها الله خيرًا لهم أن يذكروا اسم الله عليها ويتوجهوا بها إليه وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها: {فاذكروا اسم الله عليها صواف}.
والإبل تنحر قائمة على ثلاث معقولة الرجل الرابعة {فإذا وجبت جنوبها} واطمأنت على الأرض بموتها أكل منها أصحابها استحبابًا، وأطعموا منها الفقير القانع الذي لا يسأل والفقير المعتر الذي يتعرض للسؤال. فلهذا سخرها الله للناس ليشكروه على ما قدر لهم فيها من الخير حية وذبيحة: {كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون}..
وهم حين يؤمرون بنحرها باسم الله {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه. إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجهاتها لا كما كان مشركو قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات على طريقة الشرك المنحرفة الغليظة!
{كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم}.. فقد هداكم إلى توحيده والاتجاه إليه وإدراك حقيقة الصلة بين الرب والعباد، وحقيقة الصلة بين العمل والاتجاه.
{وبشر المحسنين}.. الذين يحسنون التصور، ويحسنون الشعور، ويحسنون العبادة، ويحسنون الصلة بالله في كل نشاط الحياة.
وهكذا لا يخطو المسلم في حياته خطوة، ولا يتحرك في ليله أو نهاره حركة، إلا وهو ينظر فيها إلى الله. ويجيش قلبه فيها بتقواه، ويتطلع فيها إلى وجهه ورضاه. فإذا الحياة كلها عبادة تتحقق بها أرادة الله من خلق العباد، وتصلح بها الحياة في الأرض وهي موصولة السبب بالسماء.
تلك الشعائر والعبادات لابد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة، وعلى قداسة المعابد وحرمة الشعائر، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة.
ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين، بعد أن بلغ أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله، ووعدهم النصر والتمكين، على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بينها لهم فيما يلي من الآيات: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.
إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال؛ والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان.
والشر جامح والباطل مسلح.
وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع؛ ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له. فلابد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم.
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلًا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل، اعتمادًا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر، وعمق الخير في القلوب. فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر. وللصبر حد وللاحتمال أمد، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه. والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم. ومن ثم لم يشأ ان يترك المؤمنين للفتنة، إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيأون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد.. وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان.
وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}..
وأنه يكره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتمًا: {إن الله لا يحب كل خوان كفور}..
وأنه حكم لهم بأحقية دفاعهم وسلامة موقفهم من الناحية الأدبية فهم مظلمون غير معتدين ولا متبطرين: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا}..
وأن لهم أن يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم: {وان الله على نصرهم لقدير}..
وأن لهم ما يبرر خوضهم للمعركة فهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة، لا يعود خيرها عليهم وحدهم، إنما يعود على الجبهة المؤمنة كلها؛ وفيها ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة. وذلك فوق انهم مظلومون أخرجوا من ديارهم بغير حق: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}.. وهي أصدق كلمة أن تقال، وأحق كلمة بأن تقال. ومن أجل هذه الكلمة وحدها كان إخراجهم. فهو البغي المطلق الذي لا يستند إلى شبهة من ناحية المعتدين. وهو التجرد من كل هدف شخصي من ناحية المعتدى عليهم، إنما هي العقيدة وحدها من أجلها يخرجون، لا الصراع على عرض من أعراض هذه الأرض، التي تشتجر فيها الأطماع؛ وتتعارض فيها المصالح؛ وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع!
ووراء هذا كله تلك القاعدة العامة.. حاجة العقيدة إلى الدفع عنها: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا}..
والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان، والبيع للنصارى عامة وهي أوسع من الصوامع، والصلوات أماكن العبادة لليهود. والمساجد أماكن العبادة للمسلمين.
وهي كلها معرضة للهدم على قداستها وتخصيصها لعبادة الله لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض. أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها، ويعتدون على أهلها. فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول.
ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لابد من القوة تحميه وتدفع عنه. وهي قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان!
ولابد من وقفة أمام هذه النصوص القليلة الكلمات العميقة الدلالة، وما وراءها من أسرار في عالم النفس وعالم الحياة.
إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون، واعتدى عليهم المبطلون، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين:
{إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور}..
فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم. ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتمًا من عدوه، ظاهر حتمًا على عدوه.. ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح، والجهد والمشقة، والتضحية والآلام.. والعاقبة معروفة، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة، ولا تضحية ولا ألم، ولا قتل ولا قتال؟
والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا، وأن لله الحجة البالغة.. والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من التنابلة الكسالى، الذين يجلسون في استرخاء، ثم يتنزل عليهم نصره سهلًا هينًا بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القران ويتوجهون إلى الله بالدعاء، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء!
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة، وأن يرتلوا القران، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء. ولَكِن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة. والذخيرة التي يدخرونها للموقعة، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله.
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة. فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر؛ وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة.. عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة؛ ولتؤتي أقصى ما تملكه، وتبذل آخر ما تنطوي عليه؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال.
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها، واحتشاد كل قواها، وتوفز كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها، كي يتم نموها، ويكمل نضجها، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها.
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هينًا لينًا على القاعدين المسترىحين، يعطل تلك الطاقات عن الظهور، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها.
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه. أولًا لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة. وثانيًّا لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه. فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه.
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة، والكر والفر، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر. ومن المشاعر المصاحبة لها.. من الأمل والألم. ومن الفرح والغم، ومن الاطمئنان والقلق. ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة.. ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة، وتدبير الأمور في جميع الحالات.. وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة عليها وعلى الناس.
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله.. جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء.
والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. فيكون هذا الإبطال لحكمة يريدها الله.
قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات. فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا لعدم قدرتها على حمايته طويلًا!
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًّا، لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ ولا تجد لها سندًا إلا الله، ولا متوجهًا إلا إليه وحده في الضراء. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى. فأيها في سبيل الله. فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا. فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار. فيظل الصراع قائمًا حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستقبائه!
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام. مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه:
{ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}..
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره.. فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله، فيستحقون نصر الله، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم هؤلاء:
{الذين إن مكناهم في الأرض}.. فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر.. {أقاموا الصلاة}.. فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين.. {وآتوا الزكاة}.. فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». {وأمروا بالمعروف}.. فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس.. {ونهوا عن المنكر}.. فقاوموا الشر والفساد، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه.
هؤلاء هم الذين ينصرون اللّه، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة، معتزين باللّه وحده دون سواه. وهؤلاء هم الذين يعدهم اللّه بالنصر على وجه التحقيق واليقين.
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته. المشروط بتكاليفه وأعبائه.. والأمر بعد ذلك للّه، يصرفه كيف يشاء، فيبدل الهزيمة نصرا، والنصر هزيمة، عند ما تختل القوائم، أو تهمل التكاليف: «وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأمور»..
إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة. من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح. المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات، والمطامع والشهوات..
وهو نصر له سببه. وله ثمنه. وله تكاليفه. وله شروطه. فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه.. اهـ.